* نبيل علي صالح
في هذه العجالة الفكرية سنحاول تسليط الضوء على واقع عمل الأجهزة الأمنية المنتشرة بكثرة في هذا العالم العربي الكبير، والتي هي في الأصل مؤسسات تابعة للدول وليست تابعة للأشخاص والنخب الحاكمة، لها هيكليتها الإدارية ومسؤولياتها المعروفة بنص الدستور والنظام الداخلي الناظم لعملها وسلوكها..
ولا نهدف من هذه المقالة إلى إثارة أي نوع من ألوان التحريض أو الشحن السلبي ضد تلك القوى والأجهزة المذكورة، أو إلغاء ضرورتها وأهميتها ودورها -كجهات أمنية مؤسساتية تعمل في ضوء الشمس وليس في الخفاء- في الحفاظ على استقرار البلدان وضمان أمن المجتمعات، والمساهمة الفاعلة –مع باقي المؤسسات- في بناء دول مدنية حضارية منيعة وحصينة بقوة القانون قبل أي شيء آخر..
وما نريده فقط هنا تصويب المسار الذي تتحرك عليه تلك الأجهزة، وتحديد الأولويات والاتجاهات القانونية الصحيحة لطبيعة عملها الراهن، والتركيز على الدور الوطني العام المنوط بها على مستوى حماية الناس والمجتمع وضمان أمن الأفراد وليس ضمان أمن النخب السياسية الحاكمة فقط.. خاصة بعد انزياحها عن تطبيق قوانينها الناظمة لعملها، وحدوث تحريفات وانحرافات كبيرة خطيرة على مستوى اشتغالها بالسياسة والاقتصاد والأحوال الشخصية للناس والمواطنين، ودخولها المباشر اللاقانوني إلى صلب عمل المؤسسات الاقتصادية، ونسيان (أو تناسي) دورها الرئيسي في حماية الأوطان والشعوب، وحفظ أمن الناس جميعاً من أعداء الخارج..
أسئلة واستدلالات أولية مطلوبة:
لعبت وتلعب أجهزة الأمن العربية دوراً مهماً وحيوياً في بناء وتشكيل ورعاية نمو بنى الدولة العربية التي ولدت بعد الاستقلال والتحرر من الاستعمار والانتدابات الخارجية منذ عدة عقود..
وبالنظر إلى هذا الدور والمكانة المركزية لتلك الأجهزة -التي حظيت برعاية مادية وتشريعية خاصة من زعامات تلك الدول- فقد نمت وتضخمت وتعمقت دوراً ووظيفةً ومصالح وولاءات وشبكات تنفيع زبائنية مثل النبات الطفيلي العاجز عن التطور والنمو إلا إذا تطفل واعتاش على نباتات أخرى، يأخذ منها نسغ النمو والحياة.. وهكذا كانت وعملت كثير من مواقع الأمن والشرطة السرية العربية على بناء قواها ودولها الخاصة من خلال امتصاص خيرات وموارد ونسغ الحياة الخاص بالدول (وما أكثرها وأعظمها من طاقات وثروات وموارد طبيعية وبشرية)، مما يؤدي باستمرار إلى تقلص وضعف وذبول ويباس مؤسسات شجرة الدولة العربية الأم ذاتها بمختلف مواقعها ومكوناتها وأجزائها.
ويلاحظ في كثير من الوقائع والأحداث السياسية التي تتحرك ويضج بها عالمنا العربي هذه الأيام والمنقولة إلينا عبر مختلف وسائط ووسائل الإعلام ووكالات الأنباء العربية والدولية، إن هناك نفوراً وكراهية وعداء شبه مطلق بين الإنسان العربي ومختلف قواه وأجهزته الأمنية وضمان أمنه وليس ضمان أمن النخبة الحاكمة فقط.. في مقابل وجود حالة عامة ومناخ إيجابي طيب من المحبة والوئام والوحدة الوطنية بين الجيش والشعب والذي يتمثل في هذا الشعار الذي طرح ويطرح في خضم تلك الانتفاضات والثورات العربية الراهنة “الشعب والجيش إيد واحدة”… بينما لم نجد أي ذكر طيب لكثير من القوى والعناصر الأمنية، بل وجدنا أن المتظاهرين في تلك البلدان قد رفعوا شعارات ولافتات الاستنكار والشجب والإدانة لمجمل أعمال القوى والأجهزة الأمنية.. وتجرؤوا عليها وصرخوا في وجه رموزها ونخبتها المهابة بعد عقود طويلة من وجود حواجز الخوف والرهبة..
ومن موقعنا كمتابعين ومراقبين ومحللين للأحداث، نحاول أن ننقل ونحلل بشيء من الموضوعية بعض الحوادث والمتغيرات التي لاشك بأن الكثيرين قد سمعوها أو شاهدوها على كثير من الشاشات الفضائية العربية والدولية هنا وهناك، حيث نسمع مثلاً ما حدث في غير بلد عربي عن أن أهالي هذه المدينة أو تلك البلدة –في هذا البلد العربي أو ذاك، من تلك البلدان التي شهدت أو لا تزال تشهد احتجاجات عارمة يتظاهر فيها الناس مطالبين بالتغيير- قد اتفقوا مع قياداتهم السياسية والعسكرية على منع دخول عناصر وأجهزة الأمن في مقابل السماح بدخول عناصر الجيش إلى داخل مدنهم وبلداتهم.. في دلالة على وجود مصداقية وحالة من الثقة مع مؤسسة الجيش الوطنية مقابل عدم وجود ثقة ولا أمان ولا ضمان مع مختلف الأجهزة والقوى الأمنية كما هو واضح من خلال هذا الإصرار والعناد الشديد من الأهالي على عدم السماح بدخول عناصر الأمن إلى مدنهم وقراهم..
والواضح لنا من خلال تحليل الكلمات والجمل المرفوعة واللافتات والشعارات المطروحة في كثير من تلك الاحتجاجات حتى الآن أن الناس خرجت للشارع لتعيد من جديد الاعتبار لوجودها، وتسترد –كما تزعم- حريتها وكرامتها في مواجهة سياسة الرعب والخوف والقبضة الحديدية والطغيان والقسوة المتبعة من قبل تلك الأجهزة الأمنية، في محاولة من الشعوب لكسر هذه السطوة والعنف الأعمى، والعودة للمشاركة في صنع مصائرها وسياساتها الداخلية واستراتيجيات عملها الخارجية بعد عهود طويلة من سيطرة مناخات الجفاء وأجواء الكراهية والقطيعة السياسية شبه الكاملة مع الشأن العام الذي قبضت عليه تلك الأجهزة الأمنية بقوة غير محدودة، واستعمال غير قانوني ولا إنساني لمختلف وسائل العنف، ومنعت الناس ومؤسسات الدولة الرقابية من الاقتراب منه، أو حتى مجرد التفكير بالدخول إلى ساحاتها الداخلية..
..ويا ترى ما هو سبب وجود هذه الحالة من العداء المستحكم وحالة القطيعة والعداوة شبه الأزلية بين هذين الفريقين (الشعوب والأمن)؟!! أليس أفراد عناصر الأمن في النهاية هم أناس عاملين، وليسوا شياطينَ ولا أبالسة بل هم بشر وأفراد موظفون لدى دولهم، يحصلون على معاشات ورواتب شهرية مثل باقي العاملين، نتيجة قيامهم بأعمال محددة لضمان أمن المجتمع وسلامة النظام العام في تلك البلدان؟ ثم لماذا حدث وظهر أصلاً كل هذا العداء في الأساس عندنا في العالم العربي فقط دون باقي البلدان والأمم حيث تسير الأمور بصورة طبيعية سلسة بلا مشاكل تذكر؟!، ولماذا فشلت عموم المجتمعات العربي وأجهزتها الأمنية العربية في مد جسور الثقة والمحبة بينهما على مدار عقود زمنية طويلة؟ هل السبب يكمن في عدم تنفيذ هؤلاء للقانون العام السائد وخرقهم له وعدم قدرة مؤسسات رقابية فاعلة لمحاسبتهم ومساءلتهم باستمرار؟ أو أن الخطأ يعود إلى أن طبيعة المواطن والفرد العربي بشكل خاص مغايرة لأي إنسان آخر، تكره القانون والنظام العام، وتحب المخالفات والاستثناءات بعد أن اعتاد عليها الناس هناك لفترات زمنية طويلة نتيجة وجود مناخ سياسي استثنائي عام صنعته وخلقته أنظمة الحكم الشمولية المحتاجة دوماً للقبضة الأمنية الحديدة لتثبيت وجودها وأركانها، وضمان هيبتها وتجذرها في تربة سياسية واجتماعية عربية عصبية صعبة المراس، فكان أن اشتغلت تلك النظم على الحالة الأوامرية السلطوية العلية البعيدة عن روح ومضمون القانون وعمل المؤسسات، أكثر مما اشتغلت على التأسيس للحالة المؤسساتية القانونية التي تجعل الجميع تحت سقف القانون من أعلى الهرم السياسي والمجتمعي حتى أدناه؟! أم أن الخلل والعطل واضح وضوح الشمس وهو كامن في طبيعة عمل تلك المؤسسات الأمنية التي تضخمت وكبرت في غفلة من الزمان بعيداً عن رقابة مؤسسات الدولة ومراقبة ومتابعة مختلف مواقع ومنظمات وهيئات المجتمع الأهلية والمدنية حتى باتت تثقل –بمصاريفها وإنفاقاتها اللامنظورة، وعدم محاسبتها ومساءلتها أمام الأجهزة المختصة- كاهل رموزها ورعاتها والمدافعين عنها، وأضحت تشكل أيضاً عبئاً حقيقياً على ميزانية تلك البلدان؟!!
أسئلة مهمة ولا شك، بدأت تعلو على سطح الأحداث من جملة أسئلة أخرى، ونعتقد أن الإجابة العملية عليها تتمظهر من خلال ما نشاهده من هذا الإصرار الشديد لدى الناس والنخب السياسية والفكرية في تلك البلدان على بناء دول القانون والمؤسسات، والتأسيس الجدي للبناء الديمقراطي المدني التعددي المتين بعيداً عن روح العصبية الدينية وغير الدينية المتحكمة بكثير من مفاصل ومواقع العمل السياسي وغير السياسي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.. هنا يكمن الحل الحقيقي الجوهري لمؤسسات الدولة كلها بما فيها المؤسسة الأمنية التي لاشك أنها تبقى أساسية هي وغيرها بالنسبة لأي مواطن، كونها يجب أن تعمل على ضمان أمنه، ومد مظلة وشبكة أمان مجتمعي عام فوقه، بشرط عدم التدخل في حياته وشؤونه وأعماله وخصوصياته، لابتزازه وتهديده.. وطالما أنها تحت سقف القانون والنظام القانوني العام في أي بلد، فستكون مؤسسات مفيدة مثمرة وستحظى بمحبة الناس التي سيتعاملون معها بالقانون الناظم لعمل الدولة ومختلف مؤسساتها ومن ضمنها المؤسسة الأمنية المكروهة والمتهمة والمدانة حتى الآن من قبل الفرد العربي..
أمن الوطن يأتي فقط مع دولة العدل والحرية والمؤسسات:
وهكذا فعندما تبنى دولة المؤسسات والقانون التي يتنافس ويتسابق فيها الناس والمسؤولين والأحزاب لخدمة الصالح العام، يمكن أن تبنى رؤى جديدة لطبيعة عمل تلك القوى الأمنية، كما ويتم ترسيم حدودها قانونياً بالكامل، لتصبح خاضعة للقانون وحكم المؤسسات، ومراقبة من قبل أجهزة الدولة الرقابية، ولا تأتمر بأوامر الأشخاص والأفراد المتنفذون هنا وهناك، ولتتم مساءلتها ومحاسبتها علناً وباستمرار أمام البرلمان أو غيره من المؤسسات الرقابية العليا..
إن صياغة قانون جديد للأمن العام هو أكثر من مطلوب، بحيث يمكن من خلاله تنسيب الأفراد إلى هذه المؤسسة بطرق جديدة، على أن يتم إجراء دورات تدريبية حقيقية لرجالات الأمن في كيفية التعاطي الإنساني الحضاري مع الفرد-المواطن وليس الفرد-الرعية؟ كما يمكن أن تتحدد مسؤولية عمل تلك الأجهزة في بناء وإشادة مظلة أمان مجتمعية فوق المجتمع كما ذكرنا، لحماية الناس من أعداء الخارج، وعدم التدخل بمصائر وشؤون الأفراد والمؤسسات الداخلية، حيث أنه في هذه الحالة فقط يكون عمل تلك المؤسسات أقل تكلفة مادية ومعنوية للوطن والمواطن..
ومن خلال هذا القانون الجديد نضمن أيضاً خضوع رجالات ومؤسسات الأمن الذي لا نشك في ولاء ونزاهة ووطنية الكثيرين منهم لبلدانهم، للقضاء والقانون والمحاسبة والمساءلة أمام السلطات القضائية والتشريعية مثلهم مثل باقي الناس الموظفين في دوائر حكوماتهم بعيداً عن هذه الحالة المتفشية حالياً التي يراها الناس جميعاً حيث تركت الساحة للكثير من تلك العناصر لكي يسرحوا ويمرحوا على هواهم في تدخلاتهم المباشرة في حياة الفرد والمؤسسات، فكانت النتيجة أن تلك الحالة من المناخ اللاقانوني وعدم ترسيم حدود وعلاقة الأمن بالناس والمؤسسات، قد سمحت لهم بالنفاذ الآمن السهل وغير الخاضع لأي معايير قانونية إلى صلب وتفاصيل عمل المؤسسات والشركات والمواقع الاقتصادية من أدناها إلى أعلاها، الأمر الذي ترتب عليه سلبيات كثيرة تركزت حولها وفيها كثير من قضايا وملفات الفساد التي أزكمت الأنوف هنا وهناك التي تورطت بها تلك الأجهزة في غير مكان وزمان، ولم يترتب عليها محاسبة قانونية عادلة حتى الآن!!؟!!..
وهذه هي ربما النتيجة الطبيعية لهيمنة قوانين الطوارئ الاستثناء التي سادت لمراحل زمنية طويلة في بلداننا العربية، ولا يزال كثير منها قائماً بشكل وبآخر، بحيث أنها جعلت من تلك الأجهزة ممسكة بتلابيب الدول وقابضة على أمرها وحياتها وموتها بصلاحيات (قانونية!!) واسعة لا حدود أو ضوابط لها، أي من دون وجود قوانين حقيقية وليس ديكورية شكلية تحاسبها وتسائلها، بل هناك فعلياً في بعض البلدان العربية قوانين ونظم تشريعية تحمي تلك الأجهزة والقوى الأمنية من المساءلة والمحاسبة إلا فيما ندر من حالات..
إن صياغة قانون جديد للأمن العام هو أكثر من مطلوب، بحيث يمكن من خلاله تنسيب الأفراد إلى هذه المؤسسة بطرق جديدة، على أن يتم إجراء دورات تدريبية حقيقية لرجالات الأمن في كيفية التعاطي الإنساني الحضاري مع الفرد-المواطن وليس الفرد-الرعية؟ كما يمكن أن تتحدد مسؤولية عمل تلك الأجهزة في بناء وإشادة مظلة أمان مجتمعية فوق المجتمع كما ذكرنا، لحماية الناس من أعداء الخارج، وعدم التدخل بمصائر وشؤون الأفراد والمؤسسات الداخلية، حيث أنه في هذه الحالة فقط يكون عمل تلك المؤسسات أقل تكلفة مادية ومعنوية للوطن والمواطن..
ومن خلال هذا القانون الجديد نضمن أيضاً خضوع رجالات ومؤسسات الأمن الذي لا نشك في ولاء ونزاهة ووطنية الكثيرين منهم لبلدانهم، للقضاء والقانون والمحاسبة والمساءلة أمام السلطات القضائية والتشريعية مثلهم مثل باقي الناس الموظفين في دوائر حكوماتهم بعيداً عن هذه الحالة المتفشية حالياً التي يراها الناس جميعاً حيث تركت الساحة للكثير من تلك العناصر لكي يسرحوا ويمرحوا على هواهم في تدخلاتهم المباشرة في حياة الفرد والمؤسسات، فكانت النتيجة أن تلك الحالة من المناخ اللاقانوني وعدم ترسيم حدود وعلاقة الأمن بالناس والمؤسسات، قد سمحت لهم بالنفاذ الآمن السهل وغير الخاضع لأي معايير قانونية إلى صلب وتفاصيل عمل المؤسسات والشركات والمواقع الاقتصادية من أدناها إلى أعلاها، الأمر الذي ترتب عليه سلبيات كثيرة تركزت حولها وفيها كثير من قضايا وملفات الفساد التي أزكمت الأنوف هنا وهناك التي تورطت بها تلك الأجهزة في غير مكان وزمان، ولم يترتب عليها محاسبة قانونية عادلة حتى الآن!!؟!!..
وهذه هي ربما النتيجة الطبيعية لهيمنة قوانين الطوارئ الاستثناء التي سادت لمراحل زمنية طويلة في بلداننا العربية، ولا يزال كثير منها قائماً بشكل وبآخر، بحيث أنها جعلت من تلك الأجهزة ممسكة بتلابيب الدول وقابضة على أمرها وحياتها وموتها بصلاحيات (قانونية!!) واسعة لا حدود أو ضوابط لها، أي من دون وجود قوانين حقيقية وليس ديكورية شكلية تحاسبها وتسائلها، بل هناك فعلياً في بعض البلدان العربية قوانين ونظم تشريعية تحمي تلك الأجهزة والقوى الأمنية من المساءلة والمحاسبة إلا فيما ندر من حالات..
لا أمن واستقرار بلا حرية فردية حقيقة:
ولابد لنا من الإقرار هنا أن الأجهزة الأمنية العربية –التي شكلت الحامي والدرع الواقي لأنظمة الحكم السياسي العربي- تمكنت على مدار عقود من الزمن من تحقيق وتكريس معادلة سياسية-مجتمعية تقوم على قاعدة الاستقرار في الاستبداد.. وهي نجحت في ذلك نجاحاً يحسب لها، حيث ساهمت تلك الأجهزة في تطويل فترة حكم أنظمة حكمها السياسية بالاستناد إلى تلك المعادلة القائمة على كم هائل من مفاهيم ووسائل الضبط والردع والكبت والقسر والضغط والفرض وكم الأفواه.. ونجاحها استند أيضاً على هذه المساومة والمفاضلة التاريخية بين بقائها كضامن للاستقرار أو رحيلها الذي سينتج الفوضى والخراب والدمار، ويفتح المجال للدخول في أجواء الحروب والصراعات الأهلية..
ولكن التغيرات الجذرية التي شهدتها منطقتنا العربية زلزلت أركان تلك المقولة وأعادت الاعتبار من جديد لمقولة الحرية مع الاستقرار، وأكدت على جوهرية ومركزية الاستقرار والحرية والكرامة والعدالة والأمن كغايات نهائية لكل نضالاتها وانتفاضاتها العارمة.. وأن الفرد-المواطن لا الفرد-العبد هو جوهر الاجتماع الديني والسياسي، وأن الحاكم هو مجرد مواطن سلمه الناس السلطة، وبالتالي فهو في موقع الخادم لهم لحين من الزمان وليس لكل زمان، ووظيفته تنحصر في الحفاظ على مصالح المجتمع، وليس لسيطرة عليه أو الاستبداد بأفراده ونهب ثرواته وموارده..
تقييد وقوننة عمل السلطة الأمنية:
إن كون الأمن جزء مركزي من منظومة السلطات العسكرية والبلدان ذات الطابع الشمولي المركزي، وهو معني بالمحافظة الكاملة عليها والدفاع المستميت عنها، وإخفاء عيوبها والتعمية على أخطائها، وتسمية الأشياء فيها بغير مسمياتها الحقيقية، في سياق دفن المشكلات والمعضلات الداخلية في تلك البلدان، والتظاهر بعدم وجودها عبر استخدام مختلف وسائل العنف والضغط والإكراه، نظراً لتداخل وتراكب وتجذر شبكات المصالح والمنافع وتبادل الأدوار والمواقع النفعية الشخصية والعلاقات الزبائنية في تلك البلدان على حساب مستقبل ومصالح الناس والمجتمع ككل، فلن تقوم لدولة القانون والمؤسسات والعدالة والمدنية قائمة بأي صورة من الصور، ولن يكون لوجودها أي معنى بالبعد المؤسساتي الحقيقي، لأنه وكما قالوا قديماً، “السلطة المطلقة، مفسدة مطلقة”.. وهذه تعمي القلوب والأبصار، وتجعل كثيراً ممن هم في مواقع المسؤولية والقرار الأعلى في حالة من الخدر والسكر الشديد تفقدهم صوابهم وقدرتهم على اتخاذ القرارات الصائبة التي تعود بالنفع للصالح العام في كثير من الأحيان، خصوصاً إذا كانت لدى هؤلاء أساساً استعدادات للجنون والهوس الذاتي مثل صاحبنا “القذافي” أو “صالح” أو غيرهما..
من هنا ضرورة وجود قوانين ونظم تضبط وتقيّد سلوك وحركة وعمل تلك المؤسسات الأمنية، وتلزمهم بالخضوع القانوني التام للسلطات التشريعية والرقابية والقضائية، وتجعل الإعلام الحر قادر على الوصول الآمن إلى غرفهم السرية للكشف والتعرية والعرض والفضح أمام الرأي العام الذي من حقه الإطلاع الدائم عما يجري في مؤسسات شبه مخفية تعمل في الظل، ويصرف عليها المواطن من أمواله وضرائبه التي يدفعها للدولة..
وهذه هي الفائدة الكبرى من فكرة توازن السلطات، وفصلها عن بعضها، ورسم معالم واضحة لحدودها وعملها، وأن يكون جميع الناس تحت سقف القانون والوطن وليس فوقه!!..
في النهاية نؤكد ونذكر أن غاية المقالة هو تسليط الضوء على الخلل البائن القائم في العلاقة بين المواطن العربي وبين مختلف أجهزته الأمنية التي اشتغلت وتشتغل –في كثير م الأحايين- عليه بدلاً من أن تشتغل معه وتعمل لصالحه.. وهذه العلاقة للأسف لا تزال غير مبنية على القانون بل خاضعة لاعتبارات أخرى تتضارب فيها الأنظمة النافذة بقوانين الطوارئ بالحالة المزاجية لهذا الجهاز الأمني أو ذاك..
من هنا حاجتنا الملحة لتصويب المسار، والبدء بزمن المحاسبة الحقيقية لتصحيح وقوننة تلك العلاقة لصالح الوطن والمواطن بما يضمن مشاركة الناس في بناء دولهم وعدم بقاء عنصر الخوف والرعب من تلك الأجهزة قائماً ومهيمناً على علاقة الناس بمؤسساتهم وبلدانهم..
فرجل الأمن هو -في النهاية- إنسان ومواطن مثل باقي الناس، ولكن بالنظر لحساسية موقعه ودوره، لابد من خضوعه التام والكامل للقانون والنظام والمؤسسات كي يكون عمله متوازناً ونافعاً للصالح العام وليس للنخبة فقط.
© منبر الحرية،21 سبتمبر/أيلول2011
المصدر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق