الخميس، 25 أكتوبر 2012

رسول الله وحقوق الإنسان



د. راغب السرجاني


أنعم الله على البشريَّة بدين الإسلام، الذي جعل قضية الحقوق أصلاً ثابتًا من أصول الدين، بل وجعلها منهجًا إلهيًّا يُثاب الإنسان على فعله، ويأثم إن تركه، وليست منحة من مخلوق مهما كان قدره، كما جعلها كذلك عامَّة تشمل الإنسان -مهما كان دينه أو لونه أو جنسه- والحيوان والبيئة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نِعْمَ المطبِّق لهذه الحقوق؛ فعاش الجميع في ظلِّ هديه وسُنَّته حياة حُرَّة كريمة.

نظرة الإسلام للإنسان

ينظر الإسلام إلى الإنسان نظرة راقية فيها تكريم وتعظيم، انطلاقًا من قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70]. وهذه النظرة جعلت لحقوق الإنسان في الإسلام خصائص ومميزات معينة؛ مِن أهمِّها شموليَّة هذه الحقوق، فهي سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية... كما أنها عامَّة لكل الأفراد؛ مسلمين كانوا أو غير مسلمين، دون تمييز بين لون أو جنس أو لغة أو دين، وهي كذلك غير قابلة للإلغاء أو التبديل؛ لأنها مرتبطة بتعاليم ربِّ العالمين.

رسول الله وحقوق الإنسان

جاءت كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله خير شاهد على تكريم الإنسان واحترام حقوقه، ففي خطبة الوداع -التي كانت بمنزلة تقرير شامل لحقوق الإنسان- قال صلى الله عليه وسلم : "... فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ..."[1]فأكَّدت هذه الخطبة النبويَّة جملة من الحقوق؛ أهمُّها: حرمة الدماء، والأموال، والأعراض، وغيرها.
كما نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَظِّم من شأن النفس الإنسانيَّة عامَّة؛ فيحفظ لها أعظم حقوقها وهو حقُّ الحياة، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سُئِل عن الكبائر: "الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ... وَقَتْلُ النَّفْسِ..."[2]. فجاءت كلمة النفس عامَّة لتشمل أيَّ نَفْسٍ تُقتل دون وجه حقٍّ.
وقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أكثر من ذلك حين حمى حياة الإنسان من نفسه، وذلك بتحريم الانتحار، فقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ؛ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا"[3].
كما حرَّم الإسلام كل عمل ينتقص من حقِّ الحياة، سواء أكان هذا العمل تخويفًا، أو إهانة، أو ضربًا.. فعن هشام بن حكيم، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا"[4].

حق المساواة بين الناس

 أكّد رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقِّ المساواة بين الناس جميعًا؛ بين الأفراد والجماعات، وبين الأجناس والشعوب، وبين الحكَّام والمحكومين، وبين الولاة والرعيَّة، فلا قيود ولا استثناءات، ولا فَرْقَ في التشريع بين عربي وعجمي، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين حاكم ومحكوم، وإنما التفاضل بين الناس بالتقوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، كُلُّكُمْ لآدَمَ[5]، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، أَكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، وَلَيْسِ لِعَرَبِيٍّ فَضْلٌ عَلَى عَجَمِيٍّ إِلاَّ بِالتَّقْوَى"[6].
ولننظر إلى تعامله مع مبدأ المساواة؛ لندرك عظمته ، فعن أبي أُمامة أنه قال: عَيَّر أبو ذرٍّ بلالاً بأُمِّه، فقال: يابن السوداء. وأنَّ بلالاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره فغضب، فجاء أبو ذرٍّ ولم يشعر، فأَعْرَضَ عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: ما أعرضكَ عنِّي إلاَّ شيءٌ بلغكَ يا رسول الله. قال: "أَنْتَ الَّذِي تُعَيِّرُ بِلالاً بِأُمِّهِ؟" وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "وَالَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُحَمَّدٍ -أَوْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَحْلِفَ- مَا لأَحَدٍ عَلَيَّ فَضْلٌ إِلاَّ بِعَمَلٍ، إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ كَطَفِّ الصَّاعِ[7]"[8].

حق العدل

ويرتبط بحقِّ المساواة حقٌّ آخر وهو العدل، وهذا ما علمه رسول الله لصحابته وأُمَّته، فيقول صلى الله عليه وسلم : "الْقُضَاةُ ثَلاثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ؛ فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ"[9].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى كذلك عن مصادرة حقِّ الفرد في الدفاع عن نفسه تحرِّيًا للعدالة، فيقول: "... فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً..."[10]. ويقول لمن يتولَّى الحُكْم والقضاء بين الناس: "... فَإِذَا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْكَ الْخَصْمَانِ فَلاَ تَقْضِيَنَّ حَتَّى تَسْمَعَ مِنَ الآخَرِ كَمَا سَمِعْتَ مِنَ الأَوَّلِ؛ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَكَ الْقَضَاءُ"[11].

حق حرية العقيدة

ومن حقوق الإنسان أيضًا التي شرعها الإسلام وأكدها رسول الله صلى الله عليه وسلم : حقُّ حرية العقيدة والاعتقاد، وذلك انطلاقًا من قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]. فلا إكراه لأحد على اعتناق عقيدة معيَّنة؛ ففي فتح مكة لم يُجْبِر الرسول صلى الله عليه وسلم قريشًا على اعتناق الإسلام، رغم تمكُّنه وانتصاره، ولكنه قال لهم: "اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ"[12].

حرية الرأي والتفكير

وتمتدُّ قائمة حقوق الإنسان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لتشمل أيضًا حُرِّيَّة الرأي والتفكير، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحترم رأي الآخرين ويشجِّعه، وكان حين يرى رأيًا ويرى بعض أصحابه خلافه وفيه المصلحة يرجع عن رأيه إلى رأى مَن يخالفه، وما حدث في أُحُدٍ خير شاهد على ذلك؛ حيث نزل النبي صلى الله عليه وسلم على رأي الشباب -وكانوا الأغلبية- الذي فضَّل الخروج لملاقاة قريش خارج المدينة، وكان هذا الرأي مخالفًا لرأيه صلى الله عليه وسلم [13].

حق الكفالة

وفي حقٍّ فريد يختصُّ بتشريع رسول الله صلى الله عليه وسلم -ولم يتطرَّق إليه نظام وضعي ولا ميثاق من مواثيق حقوق الإنسان- يأتي حقُّ الكفاية، ومعناه أن يحصل كل فرد يعيش في كنف الدولة الإسلاميَّة على كفايته من مقوِّمات الحياة؛ بحيث يحيا حياة كريمة، ويتحقَّق له المستوى اللائق للمعيشة، وهو يختلف عن حدِّ الكفاف الذي تحدَّثت عنه النُّظُم الوضعيَّة، والذي يعني الحدَّ الأدنى لمعيشة الإنسان[14].
وحقُّ الكفاية هذا يتحقَّق بالعمل، فإذا عجز الفرد فالزكاة تسدُّ هذا العجز، فإذا عجزت الزكاة عن سدِّ كفاية المحتاجين تأتى ميزانية الدولة لسداد هذه الكفاية، ولقد قال صلى الله عليه وسلم مؤكِّدًا على هذا الحقِّ: "مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا[15] وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ"[16]. وقال مادحًا: "إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ"[17].
هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الرائد الأوَّل والراعي الأعظم لحقوق الإنسان، ورسالته التي حملها للعالمين جميعًا رسالة إنسانيَّة، شملت برعايتها جميع الحقوق التي تتعلَّق بالإنسان كإنسان.فما أعظم إنسانيتك يا رسول الله!


مصدر المقال : 


[1] البخاري عن أبي بكرة: كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى (1654)، ومسلم: كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (1679).
[2] البخاري عن أنس بن مالك: كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور (2510)، والنسائي (4009)، وأحمد (6884).
[3] البخاري عن أبي هريرة: كتاب الطب، باب شرب السم والدواء به وبما يخاف منه والخبيث (5442)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه... (109).
[4] مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب الوعيد الشديد لمن عذب الناس بغير حق (2613)، وأبو داود (3045)، وأحمد (15366).
[5] كلكم لآدم: كل الناس جميعًا يرجعون إلى أب واحد هو آدم عليه السلام .
[6] أحمد (23536) وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح. والطبراني: المعجم الكبير (14444)، وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (2700).
[7] طفُّ الصاعِ: أَي كلكم قريبٌ بعضُكم من بعض فليس لأَحد فضْلٌ على أَحد إلا بالتقوى لأَنَّ طَفَّ الصاع قريب من ملئه، انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة طفف 9/221.
[8] البيهقي: شعب الإيمان (5135).
[9] أبو داود: كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ (3573) وقال: هذا أصح شيء فيه. والترمذي (1322)، وابن ماجه (2315)، وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع (4446).
[10] البخاري عن أبي هريرة: كتاب الوكالة، باب الوكالة في قضاء الديون (2183)، ومسلم: كتاب المساقاة، باب من استلف شيئًا فقضى خيرًا منه... (1601).
[11] أبو داود عن عليٍّ رضي الله عنه : كتاب الأقضية، باب كيف القضاء (3582)، والترمذي (1331)، وأحمد (882) وقال شعيب الأرناءوط: حسن لغيره. وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (1300).
[12] ابن هشام: السيرة النبوية 2/411، والطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/55، وابن كثير: البداية والنهاية 4/301.
[13] البيهقي: السنن الكبرى (13061)، والسهيلي: الروض الأنف 5/245، 246، وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/412، وابن كثير: السيرة النبوية 3/24.
[14] انظر: خديجة النبراوي: موسوعة حقوق الإنسان في الإسلام ص505-509.
[15] هكذا وردت في الحديث مصروفة.
[16] الحاكم (7307) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، والطبراني عن أنس بن مالك: المعجم الكبير (750) واللفظ له، والبيهقي: شعب الإيمان (3238)، وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (149).
[17] البخاري عن أبي موسى الأشعري: كتاب الشركة، باب الشركة في الطعام والنهد والعروض (2354)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم ، باب من فضائل الأشعريين (2500).



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق