في
محاولات جادة لإيقاف المد الإسلامي بدأ كفار مكة يأخذون خطوات عملية ومتدرجة في
سبيل ضمان تحقيق نتائج حاسمة وسريعة، كانت المرحلة الأولى من مراحلهم في صد الدعوة
الإسلامية ووقف المد الإسلامي هي مرحلة المحاولات السلمية ، وأعقب المحاولات
السابقة محاولات أخرى من نوع آخر تتناسب وطبيعة المرحلة الجديدة التي يعيشها
المسلمون، خاصةً أنه ورغم ما تقدم كانت قد زادت حركة الدعوة في مكة، وقويت شوكة
المسلمين وكثر عددهم نسبيًّا، وهنا شعر أهل الباطل أن الأمر من الممكن أن يتفلت من
أيديهم، فأقدموا على تنازلات كبيرة للمسلمين.
مفاوضات ومساومات
أمام
قوة ناشئة تكبر أمام أعينهم يوما بعد يوم، أقدم أهل الباطل في مكة على عقد مفاوضات
ومساومات مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في محاولة للالتقاء -كما يقولون- في منتصف الطريق، وكما يقول
تعالى: {وَدُّوا لَوْ
تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}
[القلم: 9].
فكان أن قدموا اقتراحين:
-
الاقتراح الأول : وهو اقتراح سفيه جدًّا من حكماء قريش،
طالبوا فيه بعمل عبادة مشتركة، فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما
نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد كنا قد أخذنا
بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرًا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه!!
ويُعدّ
هذا مفهومًا مغلوطًا تمامًا عن الألوهية والعبودية، وتفكير طفولي وسطحي ساذج من
حكماء قريش؛ إذ يعني أن نعبد عشرة أو عشرين إلهًا، لعل الصحيح أن يكون من بينهم!
-
الاقتراح الثاني : وكان على ذات المستوى من السطحية، وقد
تقدم به بعض المشركين يريد أن يكون هناك ما يسمى بعبادة التناوب. ،وهذا يعني أن يعبدوا إله محمد عامًا، ثم يعبد هو إلههم عامًا آخر وهكذا. وهنا نزل قول الله سبحانه وتعالى يقطع الطريق تمامًا على مثل هذه المفاوضات الطفولية: {قُلْ يَا
أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا
تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ
عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا
عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلاَ أَنْتُمْ
عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1- 6].
وهي
المرة الوحيدة التي خاطب فيها الله عزوجل الكافرين بقوله:
{قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ}؛ وذلك ليقطع
السبيل تمامًا على كل كافر من شأنه أن يساوم المؤمنين على أمر العقيدة، ومن ثَمَّ
فقد أغلق الباب تمامًا على هذه المفاوضات الهزلية.
التنكيل بالمؤمنين
بعد
ما سبق لم تجد قريش إلا أن تلجأ إلى السلاح المعتاد في أيدي أهل الباطل، وهو
ملجأهم ومفزعهم حين يجدوا صلابة في الصف المؤمن، إنه سلاح الإيذاء والتعذيب
والتنكيل.
ولا
شك أن هذا السلاح هو سلاح الضعفاء، وليس كما يظن البعض أن القوة كما هي ظاهرة في
أيديهم وأنهم أقوى من المسلمين؛ إذ إنهم يخفون وراء سيوفهم ووراء سِياطهم يخفون
ضعفًا شديدًا في نفوسهم، يخفون ضعفًا في العقيدة، وضعفًا في الإيمان، وضعفًا في
الحجة والبرهان، وضعفًا في الحكمة والرأي، وضعفًا في الضمير، وضعفًا في الأخلاق.
وإن
سلوك التعذيب والبطش والظلم والإجرام هو منطق من لا منطق له، ولا نتخيل -مجرد
التخيل- كيف لإنسان -أي إنسان- أن تقبل نفسه أو تقبل فطرته أن يرى إنسانًا يعذب
أمامه، أو يشارك هو في تعذيبه، أو يأمر هو بتعذيبه! كيف انحطت البشرية إلى هذا
المستوى المتدني من فساد الفطرة؟!
إن
الإنسان السويّ يكاد ينخلع قلبه حين يرى حيوانًا يتألم، فكيف بالإنسان؟! كيف
لإنسان أن يصلب إنسانًا ثم يلهب ظهره بالسياط؟! كيف لإنسان أن يحبس إنسانًا بلا
جريرة ولا ذنب؟!
وإذا
كان الإسلام قد حرّم على الإنسان أن يحبس هرة، فكيف بحبس الإنسان مع ما يترتب على ذلك
من تداعيات خطيرة في المال والأهل والولد نتيجة هذا الحبس الجزافي الجائر!!
وقد
حرم الإسلام على الإنسان أن يقذف طائرًا بحصاة قد لا تؤثر فيه لدرجة القتل؛ وذلك
لما في هذا من تعذيب للطائر، وحرم الإسلام على الإنسان أن يشق على الحيوان في
ذبحه؛ حيث قال (صلى الله عليه وسلم) :
"إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ،
فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا
الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ".
هذا
مع الحيوان الذي يذبح، فكيف بمن يصلب إنسانًا ثم يُلهب ظهره بالسياط؟! كيف بمن
يُطفئ في جسد إنسان أعواد وأسياخ النار؟! كيف بمن يقلع أظافر إنسان وهو ينظر إليه،
عينُه في عينِه؟!
كيف
بمن يحبس إنسانًا أيامًا وشهورًا بل وسنوات، مع كل ما يترتب على ذلك من أحداث
وآلام لأسرته (زوجته وأولاده وأمه وأبيه) بلا جريرة ولا ذنب إلا كما قال الله تعالى:
{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ
العَزِيزِ الحَمِيدِ}
[البروج: 8].
ومهما
كان من أمر فقد قست قلوب الكافرين وانطلقوا يفترسون المؤمنين والمؤمنات في نقطة
سوداء في تاريخ البشرية كلها، حدثت في مكة وتتكرر اليوم وإلى يوم القيامة، يصدق
فيهم قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ
أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}
[البقرة: 74].
قصة بلال بن رباح وأمية بن خلف
بلال
وأَحدٌ أحدٌ، كان ممن تلظى بسلسلة مضنية من التعذيب وعلى يد أمية بن خلف. بلالُ بن
رباح ، حيث ذاق تعذيبًا بدنيًّا ومعنويًّا لا يكاد ينقطع.
-
كان أمية بن خلف يضع في عنقه حبلاً، ثم يأمر أطفال مكة أن يسحبوه
في شوارعها وجبالها، حتى كان يظهر أثر الحبل في عنقه.
-
كان أيضًا يمنع عنه الطعام حتى يكاد يهلك جوعًا.
-
وكان يأخذه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على الصخور والرمال الملتهبة
في صحراء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة لا يقوى على حملها إلا مجموعة من الرجال،
فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد
اللات والعزى.
ألم،
وجراح، ودماء، وفي ذات الوقت كان من بلال صبر، وعزم، ويقين، بل وأمل في أن هذه
-ولا شك- دورة سريعة من دورات الباطل، لا محالة تسلم الراية بعدها وفي النهاية
للمؤمنين.
كانت
توجعات وآهات بلال في كل ذلك ليست إلا: أحدٌ أحدٌ.
وحين
سُئل: لماذا هذه الكلمة بالذات؟! أجاب: لأنها كانت أشد كلمة على الكفار، فكان بلال
بن رباح رضي الله عنه يريد أن يغيظهم بها.
وفي
صبر عجيب ظل بلال في هذا التعذيب حتى اشتراه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم أعتقه بعد ذلك.
ومرت الأيام ونُسي الألم، ولكن بقي الأجر، فكانت قاعدة: يذهب الألم ويبقى الأجر إن
شاء الله.
صبرًا آل ياسر
كان ياسر وزوجه سمية -رضي الله عنهما-
والدا عمار بن ياسر رضي الله عنهم، قد دفعهما القدر
لأن يقعا تحت يدي رأس الكفر نفسه، أبي جهل لعنه الله، فعذبهما أبو جهل تعذيبًا
شديدًا، وقد زاد العذاب وتجاوز الأمر الحدود حتى وصل إلى إزهاق أرواحهما، فقُتل
ياسر، وقُتلت سمية رضي الله عنهما، قُتِلا في بيت الله الحرام جرَّاء التعذيب
والتنكيل.
ما ذنبهما أن يعذبا حتى تزهق
أرواحهما؟! بأي ذنب قتلا؟! أريد أن يجيبني كل من سَلّح يده بكرباج أو سياط، ما
ذنبهما؟! ما جريرتهما؟! اللهم ليس إلا {أَخْرِجُوا آلَ
لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56].
ومن أرض مكة إلى روضة من رياض الجنة
كان قد طمأنهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بقوله:
"صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ".
ستمر الأيام سريعًا، وستمر أيام القهر،
قُتل ياسر وقُتلت سمية، ومن بعدهما قُتل أبو جهل، وترى من الفائز في النهاية؟
القاتل أم المقتول؟
سيأتي يوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب
العالمين، في هذا اليوم سيأتي كل الذين عذبوا المسلمين على مر العصور، يغمسون غمسة
واحدة في نار جهنم، من بعدها بل وفي أثنائها سيكتشف هؤلاء الهمجيون -أمثال أبي جهل
وأمية بن خلف وعتبة
بن ربيعة، وغيرهم ممن سار على نهجهم- أن العذاب الذي جربوه في الدنيا على غيرهم
على عظمه ليس إلا أمرًا يسيرًا هيّنًا، بل لا يكاد يعدل شوكة.
غمسة
واحدة في نار جهنم ستنسيهم سعادة الدنيا جميعًا، فما البال بالخلود! وما الخطب
بالعذاب المقيم في جهنم!
وفي
نفس الوقت سيأتي بلال وياسر وسمية ومن سار على نهجهم، والذين عُذبوا في سبيل الله،
سيأتي هؤلاء ويغمسون غمسة واحدة في الجنة وسوف ينسون شقاء الدنيا كلها.
أي
جهل وغباء وحماقة يعاني منه أولئك المعذِّبون لغيرهم؟! {أَلاَ يَظُنُّ
أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين: 4، 5]، {أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].
في
أي شرع، وفي أي ملة، وفي أي قانون يُعذب الإنسان للاعتراف بشيء ما، سواءٌ أكان
فعله أم لم يفعله؟
لكن
هذا ما كان يحدث في مكة، وهذه هي سنة الحياة.
مصدر المقال موقع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق