الأربعاء، 19 يونيو 2013

مثقفون للبيع!!



بقلم: أ.د. توفيق الواعي

شراء المثقفين فى العالم الثالث اليوم أصبح سلعة رائجة تستخدم فى ضياع الأمم؛ حيث يمكنك أن تشترى مثقفا هذه الأيام كما تشترى شقة تمليك أو عمارة، يمكن أن تؤجر قلما بالجملة والمفرق، كما تؤجر عربة تركبها توصيلة واحدة أو شهرا أو سنة! لا تستغرب هذا يا صديقى، فممكن أن تشترى صحيفة بأقلامها ومحرريها كما تشترى فندقا بموظفيه ومضيفيه وعماله، ويمكن أن تشترى إذاعة أو قناة تليفزيونية، وتستعمل كل ذلك وتوجهه كما تشاء!!

فنخاسة الفكر أصبحت لها سوق رائجة هذه الأيام، وأصبح لهذه السوق سماسرة ودلالون، يعرضون عليك البضاعة جيدها ورديئها، وينادون عليها كما ينادى على السلع الاستهلاكية!! لا تستغرب هذا يا صديقى، فقد عشنا هذه الأيام ورأينا هذه الأسواق التى كانت تشترى فيها هذه الأقلام بالجملة والقطاعى، يوم كانت الأسواق للصحفيين والمثقفين بعناوين مختلفة وتتم فيها الصفقات فيعطى هذا سيارة فارهة، وهذا تبنى له فيلا فخمة، وذلك تفتح له الحسابات فى البنوك. وما زلنا نعيش ونسمع عمن يكتبون ويدافعون عن قضايا لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بحمية وحرقة وانفعال انتظارا للأجر الأسخى والجزاء الأوفى.

هذا العهر الثقافى أصبح فى الشرق مصيبة المصائب، وأضحى سعارا ووباء قذرا يمزق الشرف الثقافى، ويخرب الضمير العلمى، ويلوث الطهارة الفكرية، ويهدد مصداقية الكلمة، وهذه الخيانة العلمية، وهذا الزور الفكرى تسبب إلى حد مذهل فى ضياع هوية الأمة، وفقدان الثقة فى معلميها وروادها، وقادة نهضتها وكان وبالا وخرابا، قسم الطريق أمام التوجه الصحيح، وبات سيفا مسلطا على رقاب المجاهدين بالكلمة الصادقة، والمصلحين بالمنطق النظيف، والداعين بالحكمة والموعظة الحسنة، بل كان إرهابا ثقافيا مدججا بأسلحة كثيرة وقوى رهيبة فى مواجهة الكلمة المخلصة والفكر الأمين، والقول الناصح.

هذه الظاهرة المتدنية، وهذا الفكر المتسول قديم حديث، ولكنه يقل ويكثر تبعا لنهضة الأمم وانحطاطها، وقد نبه القرآن الكريم إلى خطورة هذا الصنف المزور المتسول بالفكر، فقال: ((فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ)) (البقرة: 79)

لما بلغ الحال بالعلماء والمفكرين إلى أن يصبحوا سلعة مهينة، وباطلا مزورا ورخيصا يكون قد تودع من هذه الأمة، ولا بد من كشف هذا الدجل وتعرية هذا الكذب الذى تطاول حتى على المقدسات، وويل لأمة قد تصدرها هذا الفكر ورادها هذا الخراب.

والخطاب القرآنى واضح فى أن هذا سيرتد على الأمة وعلى الخائضين فيه، وواضح كذلك بأن هذا التخريب ثمنه قليل وتافه وسينقلب ويلا على أصحابه فى الدنيا والآخرة..

وتنحدر هذه الظاهرة إلينا لأنها سنة من سنن الهوان والتدنى، يقول الإمام الغزالى رحمه الله: «أعلم أن الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تولاها الخلفاء الراشدون المهديون، وكانوا أئمة، علماء بالله تعالى، فقهاء فى أحكامه، وكانوا مستقلين بالفتوى فى الأقضية، فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلا نادرا فى وقائع لا يستغنى فيها عن المشاورة، ثم جاء من الحكام على منوالهم الكثير، فلما أفضت الخلافة بعد زمان إلى أقوام تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتوى والأحكام، اضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم لاستفتائهم فى مجارى أحكامهم، وكان قد بقى من العلماء من هو مستمر على الطراز الأول من الورع وملازمة صفو الدين وعلى سمت علماء السلف.

فكانوا إذا طلبوا هربوا أو أعرضوا -خوف مصاحبة الظلمة- فاضطر الخلفاء إلى الإلحاح فى طلبهم لتولى القضاء والحكومة، فكانوا رحمة للأمة وكلمة صدق، فرأى السفلة من الناس عز العلماء وإقبال الأئمة والولاة بالمال والصلات والهبات، فدرسوا العلم ومارسوا الفتيا وأقبلوا على خدمة الولاة ليأخذوا العطايا والهبات، فمنهم من حرم ومنهم من أعطى، والمعطى لم يخل من ذل الطلب ومهانة الابتذال، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلطان أذلة بالإقبال عليهم إلا من وفقه الله تعالى فإنا لله وإنا إليه راجعون.

هذا وكان خطرهم على الأمة عظيما لما يلى:

1- لأنهم ساوموا وبقدر كبير على كلمة الحق ،ومالئوا بسبب الإصرار على مهادنة الباطل.

2- لأنهم تبنوا وبمغالطة مكشوفة، وقتلوا وبجناية مدبرة، روح المقاومة والكفاح فى الناس.

3- لأنهم نفخوا فى أبواق النفاق، ولعبوا كدمى على المسرح، وضللوا كسحرة فى الساحة.

4- لأنهم شنقوا الناس بكلماتهم، وقتلوا الأحرار بأقلامهم، وجلدوا ظهور المناضلين بصحفهم.

5- لأنهم أضاعوا الكلمة الحرة، ووأدوا الرأى الآخر، وسحقوا الهوية الثقافية.

6-لأنهم نصبوا أنفسهم أعداء وحكاما، ومدعين وقضاة، وكهنة وأصحاب صكوك للغفران.

7- لأنهم -إلا من رحم ربك- وهب نفسه لتدمير عقائد الأمة تطوعا لشهوة عاجلة أو عمالة لقوة دافعة، أو لزندقة سادرة، أو لحقد على الإسلام وأهله ورث فسادا فى الطبيعة وميلا للتخلى عن مصالح الوطن العليا.

والحقيقة أن هذا شىء لم يكن متوقعا، وأن كثيرا من الناس لم يكونوا يتصورون أن حقد كثير من المثقفين فى أمتنا على الإسلام بمثل هذه الضراوة التى هى عليها الآن، وظن أن الارتقاء العلمى والزخم الفكرى قد خفف من هذه السخائم القديمة، وبعضهم ظن أن ادعاء الوطنية والتشدق بحب الديمقراطية قد عدل من هذه الوساوس، وقال البعض الآخر: لعل كثرة التطواف وإرهاق البحث فى تضاعيف المذاهب الفاسدة قد نبه عندهم شيئا من الغفلة وحرك فيهم شيئا من العقل. وكان هذا وهما كبيرا.

والحقيقة أن أمتنا اليوم تحتاج إلى كل صاحب فكر مخلص فى ساحتها ولا بأس بمقارعة الفكر بالفكر بغير تشنج من أحد أو ظلم للعقل أو تجاهل للإصلاح، كما تحتاج الأمة -وبإلحاح- إلى الحرية بكل معانيها ومضامينها الخيرة، وإلى كسر الأغلال والقيود وفك الرقاب من العبودية الفكرية والحزبية والتطلع إلى مستقبل الأمة، كما نحتاج وبإلحاح إلى نكران الذات ومواصلة العطاء وحسن التقدير للمبدع وتشجيع الصالح، والأخذ بيد المجتهد وإنارة العقول بالفكر الصحيح.
--> -->المصدر 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق